المحضن الأول: تعتبر الأسرة المحضن التربوي الأول الذي ينشأ فيه الطفل.
ومن البديهي أن البيئة المثالية لتربية الأبناء، هي منزل يسوده الوئام في كنف أب وأم متفاهمين محبان لطفلهما.
ولكن المناخ الأسري يكون في بعض الأيام جيدًا ثم يكون في أيام أخرى غير ذلك.
وهذا أمر طبيعي، والواجب على الوالدين محاولة زيادة الأيام السعيدة بينهما، والاستمتاع بوقت التواصل مع الأولاد.
ومن الحكمة في التربية أن (تكون سياسة الأبوين موحدة أو متقاربة تجاه الطفل بحيث لا يشعر أن هناك فارقًا ملحوظًا بين معاملة كل منهما له.
وبالذات لا ينبغي أن يقف الأبوان موقفين متعارضين أمام الطفل تجاه عم قام به.
فمثلًا أحدهما يطلب بعقابه والآخر يعارض في توقيع العقوبة عليه، فإن هذا يفسد الموازين في حسه.
ويشعره بأن الأمور ليس لها ضابط محدد، ولا معيار معين يلتز به، وأن في إمكانه أن يخالف تعاليم أحد الوالدين ويجد من يدافع عنه من طرف آخر.
وحتى حي يكون موقف الوالدين مختلفًا في تقدير ما ينبغي أن يُعامل به الطفل في موقف معين، فلا يجوز لهما أن يعلنا خلافهما ذلك أمام الطفل.
إنما فيما بينهما فيما بعد، وعلى غير مسمع من الطفل، لأنه يدرك مغزى الخلاف بين الوالدين بشأنه ويتأثر بنتائجه، والنتيجة كما قلنا هي اضطراب المعايير في حسه بحيث لا يصبح الخطأ والوصاب واضحي المعالم عنده، ومن ثم لا يعود يلتزم بما يُطلب منه.
وليس معنى ذلك إذا أسرف أحد الوالدين في العقاب مثلًا، أن يقف الطرف الآخر مكتوفًا وهو يحس بهذا التجاوز.
ولكن عليه أن يقوم بتسكين الموقف دون إظهار المعارضة، كأن يأخذ الطف بعيدًا ويقول له: انظر كيف أغضبت أباك لأنك صنعت كذا وكذا، اعتذر له لكي يرضى عنك.
وبذلك يُنقذ الطفل من العقاب الزائد دون أن يحس أن أبويه قد اختلفا بشأنه) [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، (2/115-116)].
أخي المربي:
إن خلاف الوالدين حول كيفية تربية أطفالهما قد يكون أمرًا بديهيًا، والاتفاق التام على أسلوب تربية الأبناء قد يكون هدفًا بعيد المنال.
ولكن الشيء المهم بالنسبة لهما ألا يُقلل أحدهما من شأن الآخر، وأن يكون لديهما طرقًا متكاملة لتربية أبنائهما.
ويبقيا الخلاف مهما اشتد في أضيق الحدود المستطاعة، ولا يختلفا أمام الأبناء، فهذا الاختلاف يؤثر سلبًا على تربيتهم، وهو في ذات الوقت يجعل الابن مشوَّش التفكير، لأنه يتلقى أوامر مختلفة، ومعايير للأمور مختلفة.
التربية المتناقضة:
يطلب الابن من أبيه أن يزيده في المصروف، فيرفض الأب، فيذهب الابن إلى أمه فتعطيه، وهنا المشكلة تربوية ليست بالهينة بل إنها في الحقيقة كارثة تربوية.
فمثل هذه الأجواء التربوية التي يختلف فيها الأبوان على السياسة التربوية الملطلوبة يتعلم الأبناء التلاعب بالآباء.
فهم يطلبون أمرًا من الآباء يعلمون سلفًا أنهم يستسلمون لها، ويطلبون أخرى من الأمهات لأنهن يستجبن لهن فيها.
ولذا يجب على الأب والأم أن يتفقا على القواعد الخاصة بالتربية وما يستحقه كل طفل، وطرق عقاب المخطئ، فإذا لم يوافق أحدهما الآخر على فعله فليصوبه.
ولكن ليس أمام الأبناء، فإن اختلاف الآباء والأمهات أمام الأبناء على السيسة التي يجب اتباعها في التعامل مع الأبناء يُعلِّم الأبناء نقطة ضعف كل منهما.
ومن ثم نسمع عبارات من الأولاد مثل (أبي يرى أنه لا بأس أن أشتري ذلك القلم- أمي ترى أنه يمكنني الذهاب إلى تلك الحفلة).
تمرد الأبناء:
يؤدي اختلاف الأبوين على السياسة التربوية للأبناء، إلى تمرد الأولاد، (فالأم مثلًا تظهر النظام والاحترام، وتظهر العناية والإخلاص للآخرين خارج البيت، بينما يحدث العكس تمامًا داخل البيت مع أولادها،.
وكذلك يفعل الأب، مما يوقع الأبناء في حالة مقت واشمئزاز من السلوك المتقلب، وحالة رفض داخلي أو شك في مصداقية المبادئ التي يظهر الأبوان حبها.
ويدعوان إليها، كذلك قد يؤدي هذا إلى ضيق الأبناء بسلوك الأبوين واليأس منه، فيبحثون عن نماذج سلوكية أخرى خارج البيت، والتي تكون في الأغلب الأعم نماذج سيئة) [الانفعالات ـ التشخيص والعلاج، عبد العزيز النغيمشي، ص(137)].
مثال للتربية الخاطئة:
يجلس الأب والأم وبجانبهما ابنتهما ذات الخمس سنوات في مطعم للمرطبات، تمد الطفلة يدها لتأخذ كأس العصير.
فتبدأ على الفور مسابقة بين الأم والأب في إمطارها بوابل من النصائح والإرشادات، وهكذا وكأنهما يؤكدان لها أنها لا تستطيع أي عمل مهما صغر إلا في ظل إرشادتهما التفصيلية.
وترتبك الطفلة ولا تدري ماذا تصنع، وأخيرًا تترك العصير وتقرر أنها ليست بحاجة إليه، وتصر على عدم تناوله.
ويتبادل الزوجان اللوم ونظرات العتاب، وكل منهما يلقي اللوم على الآخر، وفي الحقيقة كلاهما قد شارك في هذه النتيجة التربوية من عناد الابنة عبر ما ظن أنه لونًا من ألوان الإرشاد، وهو لا يعدو نوعًا من أنواع التحكم الفارغ.
وهذا هو واقع أكثر الآباء فهم يرون الرجولة هي الجفاء وعدم النزول إلى مستوى الأبناء، والكلام معهم بتعالي، فلا مداعبة، ولا ممازحة، ولا مشاركة في لعب، ولذلك يشعر الصبي بفجوة عظيمة، وبحاجز هائل بينه وبين والده، فأبوه لا دور له في حياته، إلا أنه دكتاتور متسلط، يلقي أوامره وتعليماته، بصوت عال وسوط حاد.
وجبين مقطب أسد فقط على أولاده، وكأنه فرعون زمانه، ولا يطيق ابنه أن يراه، فلا يجد في حضرته متعة ولا في وجوده لذة، يتمنى أن يسافر إلى الصين، ولا يعود ولو بعد حين، وما كل ذلك إلا بسبب اقتصار دور بعض الآباء على إعطاء الأوامر لأبنئهم، ومراقبة تنفيذها.
مخاطر المشاكل الزوجية على الأبناء:
(لقد كان معدل الانفصال منذ 25 عام ضئيلًا جدًا لدرجة لم تجعله يحظى بالانتباه والاهتمام الكثير، ولكن الأمر قد اختلف في وقتنا الحاضر، فلقد علمنا الكثير عنه، فالطلاق يؤذي مشاعر الطفل مما ينعكس بالسلب على الطفل نفسه في بعض الأحيان.
فالطفل يشعر بالضياع والرفض والهجر والوحدة والغضب، لذا يرى معظم الملاحظين أن هناك ارتباطًا بين ارتفاع معدل الطلاق، وزيادة معدل الانضمام للعصابات، والإدمان والتهرب من التعليم.
يرتبط الطفل نفسيًا بكلا الوالدين، فعندما ينفصلا ويشعر الأطفال أنهم فقدوا نصف ذواتهم، وتنتابهم مشاعر الفقدان، والرفض والهجر التي تدمر قدراتهم على التركيز في الدراسة، وعندما يشعر الأطفال أنهم فقدوا نصف ذواتهم.
وتزداد هذه المشاعر غير الصحية, وعندما يتشاجر أو يقلل أحد الوالدين من شأن الآخر، أو يتفوه أحدهما بألفاظ نابية للآخر أمام أطفالهما يسبب ذلك نوعًا من القلق لدى الأطفال من صفات الإكتئاب تلك التي تتولد بداخلهم.
إن الغضب والعدوانية هما بمثابة ردود أفعال طبيعية للانفصال بين الآباء, بالإضافة أن التغيير يخيف الأطفال، فعادة ما يأخذ أحد الآباء الأطفال ويترك البيت، وربما ينتقلون للعيش مع أحد الأقارب، أو بأحد الأحياء الفقيرة.
وهذا يعني بالنسبة لكثير من الأطفال الانتقال إلى بيت جديد ومدرسة جديدة وأصدقاء جدد وضغوط جديدة، بالإضافة إلى فقدان أحد الأبوين، وتغيير تام في أسلوب الحياة) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفر، ص(289-293)، بتصرف واختصار].
ماذا بعد الكلام؟
(الخلافات الزوجية سوف تستمر، شئنا أم أبينا، ولقد اعتبرها البعض من عوامل الصحة في الحياة الزوجية، لكن ليس كل خلاف زوجي هو خلاف صحي، بل هناك خلافات هدامة، وذات أثر سيئ على الأبناء، وهي تلك التي تعلوا فيها الأصوات، وتقذف فيها الكلمات الجارحة من أحد الأطراف، في وجه الآخر.
ومن أجل استيعاب المشاكل الزوجية والسيطرة عليها، وحصرها في نطاق ضيق لابد من التنبيه على عدة أمور:
1. التزام حدود الشرع, وحدود الأدب العام عند أي خلاف زوجي، فلا تعلوا الأصوات، ولا يتبادل الزوجان الاتهامات أمام الأبناء الكلمات الجارحة، ومن باب أولى يبتعدان عن علو الأيدي والإشارات.
2. ينبغي إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الخلافات عن الأبناء، واحترام عقلية الأبناء وعدم الكذب عليهم حين يسمعون من خلف الأبواب تراشق الزوجان بالتهم، وإذا علم الأبناء بوجود خلاف بين الزوجين، وكان ظاهرًا للعيان ينبغي أن يصارحهما أن أي اثنين في الدنيا يمكن أن يختلف مع بعضهما البعض حول أمور الحياة، لكن هذا الخلاف (لا يفسد للود قضية) كما يقال، وأنهم يحبان بعضهما البعض.
3. يجب الحذر من أن يمثل أحد الزوجين أمام الأبناء دور الضحية وأنه مظلوم، وأن الطرف الآخر دائمًا يتهمه بالباطل، فهذا أمر خطير، لأنه يجب أن ينظر الأبناء إلى الآباء والأمهات على أنهم القدوة، وعلى كل طرف أن يمتدح الطرف الآخر أمام الأبناء، فالأم تمتدح الأب أمامهم، وإن كانت على خلاف معه، وتقول للأبناء (إنه أحسن أب), والأب يثني على الأم ويقول للأبناء (إن أمكم أم عظيم, وإنها تتعب كثيرًا من أجلنا).
4. المرجعية الشرعية: يجب أن يتفق الزوجان على حل أي خلاف بينهما في ضوء تعاليم الإسلام، وأن يسألا أهل الاختصاص والفتوى.
5. عدم الاختلاف أمام الأبناء في أسلوب التربية: وذلك حتى لا يتشتت الأبناء ويفقدا الثقة في تربية الوالدين لهما) [كيف تصبح أب، عادل فتحي عبد الله، ص(82-84)، بتصرف واختصار)].
المصادر:
• كيف تصبح أب، عادل فتحي عبد الله.
• كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفر.
• منهج التربية الإسلامية، محمد قطب.
• الانفعالات ـ التشخيص والعلاج، عبد العزيز النغيمشي.
الكاتب: أ.عمر السبع
المصدر: موقع مفكرة الإسلام